امسِك بيدي!

عندما أصبحُ كبيرًا، سأكونُ سائقَ شاحنةٍ!

يقولُها طفلٌ في عمرِ الثالثةِ وهو يلعبُ بشاحنته البلاستيكيّة في غرفته. هو حلمٌ بألفِ معنى إذ يُدرك الطفلُ أكثرَ من غيرِه أنُّه كائنٌ قيدَ التطوّرِ وأنَّ ما لا يستطيع فعله اليوم سيصبحُ بمتناولِ يده وهو يكبر.

ماما، متى تكفّين عن تقطيع طعامي وتسمحين لي أن استخدم السكّين؟

يطالبُ أيضًا باستقلاليّته ويجسّدُها بألعابه: فهو أبٌ يقود سيّارة، أو أمٌّ تحضّر وجبةَ الطعام لأطفالها.

ماما، أريد قصّة ما قبل النوم!!!!

هو لا يزال طفلًا يخافُ من الظلام، من الوحشِ ومن الساحرة. 

هو طفلٌ يبكي متى جاع و قد يبلّلُ ثيابَه ما لم ينتبه. 

هو طفلٌ يختبىءُ خلفَ ثوبِ أمِّه إذا ما شَعَرَ بالخجلِ ويكتفي بقطعةٍ من منديلها ليشعرَ بالاطمئنان. 

هو طفلٌ يكتفي بذكرِ اسمِ والدِه لكي يَضَعَ حدًّا لمن يُعارضُه أو يشكّلَ له تهديدًا.

هذا الطفلُ هو طفلُ الروضةِ. 

هو طفلٌ يتأرجحُ بين حاجتِه للآخر ورغبتِه بالانفصالِ عنه.

يبكي لأنَّ ماما تركته، يبحثُ عن بديلٍ عاطفيٍّ، يبحث ُعن أمان. 

يريدُ أن يلعبَ ولا يريدُ المشاركة.

اعتادَ على اقتنائه لكلِّ ألعابِه وهو اليومَ يُشاركُها مع أطفالٍ آخرين. 

كانت ماما تناديه ليأكلَ وتُذَكّرَهُ بموعدِ الدخولِ إلى الحمام. 

هو الآن بدون ماما. 

متى يأكل؟ 

متى يدخل إلى الحمام؟

كلُّ ذلكَ يدورُ في ذهنِه ولكنًّه لا يدري.

يحاولُ أن يخرجَ من القاعة وأن ينادي ماما … لكنًّها ليست هنا. 

يبكي.

هوَ في مكانٍ جديدٍ، لم يعتد عليه. 

هو مع أولادٍ آخرين يشاركونَه الألعاب والطاولة… واهتمامَ المعلّمة.

ما يطلبُه ليس بكثير!

هو يبحثُ عمّن يرحِّب به . 

عن بيئةٍ حاضنةٍ، متفهّمةٍ وآمنة. 

عن تنظيمٍ زمنيٍّ وتخطيطٍ متطوّرٍ يحترمُ فرادتَه ويراعي أحلامَه ويساهم في اكسابه الاستقلاليّة التي يريد.

من هنا تكتسبُ مرحلةً رياضِ الأطفالِ مهمّتَها الأساسيّة وهي جعل الأطفالِ يرغبون بالذهاب إلى المدرسة. 

وهذه الرغبة لا تتأتّى إلّا نتيجةً لتكافؤ الفرصِ والسيرِ نحو الاستقلاليّة. 

فتكافؤ الفرصِ يضمنُ نجاحَ المتعلمين كما يساهمُ في صقلِ شخصيّةِ الطفلِ ومساعدتِه للانتقالِ من الفرديّة والشخصانيّة إلى الانتماء والمشاركة والغيريّة.

لذا، على المدرسةِ والمعلّم أن يتكيفا مع احتياجاتِ الأطفالِ الصغارِ، من خلال تنظيمِ طُرُقَ تَعلُّمٍ محدّدةٍ حيث يتعلّمُ الأطفالُ معًا ويتعلّمون العيشَ معًا.

ينمو الأطفالُ بالتوازي في مسارين متكاملين، أحدهما حلزونيّ والآخرُ دائري، ويتطوَّرُ الخطُّ الحلزونيُّ الأولُّ عموديًّا رامزًا إلى نموِّ الطفلِ كفردٍ، ويشملُ الجوانبَ المختلفةَ لتطوّرِهِ (الجسديّ والعقليّ والاجتماعيّ)، بينما الخطّ الدائريّ الثاني وهو بشكلٍ أفقيٍّ يعكسُ تدريجيًّا تطوّرَ الطفلِ كفردٍ من عائلته، ثمّ كعضوٍ في مجتمعه وبلده.

في الواقع، في سنّ الثالثة، يكونُ لدى الأطفالِ معارفَ ومهارات سواءَ من أسرِهم أو من دورِ الحضانة. وهذه المعارف تتفاوتُ بين طفلٍ وآخر. 

يتطلبُ هذا التفاوتَ في المعرفةِ قدرةَ رياضِ الأطفال على التكيُّفِ من خلالِ تنفيذِ استراتيجيات وتقنيات تدريسٍ وتقييمٍ مختلفةً لاحترامِ فرادةِ كلِّ متعلٍّمٍ وضمانِ حقٍّه في التعلُّمِ والوصولِ إلى المعلومة.

يقومُ المعلّمُ بإعدادِ مواقفَ تعليميّةً مختلفةً ويختارُها وِفقًا لاحتياجاتِ المجموعةِ ولاحتياجاتِ كلِّ طفلٍ.

اللعبُ والتأمّلُ وحلُّ المشكلاتِ ولعبُ الأدوارِ هي تقنيّاتٌ تُستَخدَمُ على نطاقٍ واسعٍ في رياضِ الأطفالِ لأنّها تَسمحُ للطّفلِ بالانتقالِ من التّجسيدِ إلى التّجريدِ ومنَ البسيطِ إلى المعقّدِ.

الهدفُ الأساسيُّ لرياضِ الأطفالِ هو إذًا الإبقاءَ على كونِ الطّفلِ طفلاً ينمو ومساعدتِهِ على اكتسابِ خصائصَ المتعلّمِ .وضعيّةُ المتعلّمِ ليست وضعيةً فطريّةً، بل هي وضعيّةٌ تكتسبُ عن طريقِ التعلّمِ. 

لذا، من الضروري جدّا التمعّنُ في اختيارِ الوسائطً التعليميّةً أكانت مناهجًا، كتبًا، قصصًا وألعابًا. 

فهي ليست أهدافًا بحدِّ ذاتِها بل وسائطً لتحفيزٍ شاملٍ للطفلِ من النواحي التالية: 

– النموّ اللغوي

– النموّ الحسي الحركي 

– النموّ العلمي

– النموّ الفني 

– النموّ الاجتماعي والعاطفي

كلُّ هذه المجالات تشكّلً جزءًا لا يتجزّأ من ركائزِ الطفولةِ لأنّه بتطويرها يكتسبُ الطفلُ الاستقلاليّة :

– إنّه يستقلّ عندما يكتسبُ معجمًا وتراكيبَ لغويّة تخوّلُه التعبير والتواصل مع الآخر… 

– يستقلّ عندما يصعدُ وينزلُ الدرجَ بمفرده، عندما يستطيعُ الكتابةَ على السطر… 

– يستقلّ عندما يضيفُ ماءً باردًا لشرابِهِ الساخن لتعديلِ حرارته…

– يستقلّ عندما يغنّي ويلتزم بالإيقاع 

– يستقلّ عندما يحترم شرعة الصفّ

كلّ هذا، متّى حُفّزَ بالطرق المناسبة، ساهمَ في بناءِ شخصيّةٍ مستقلّةٍ قادرةٍ على التحليل.

على عكسِ ما يقال، ليس الهدفُ من رياضِ الأطفالِ إكسابَ الطفلِ معلومات. 

المطلوبُ هو إكسابُه مهاراتٍ وقدراتٍ تحليليّة تخوّله الوصولَ إلى المعلومة. والتقييمُ في هذه المرحلة يجب ألّا يكونَ مبنيًا على صوابيّةِ النتيجةِ بل على مقدارِ الاستقلاليّةِ في الوصولِ إليها: أهي استقلاليّةٌ تامّةٌ أم الطفلُ لا يزالُ بحاجةٍ إلى مساعدةِ الآخر.

لقد عبّرت الطبيبةُ والعالمةُ النفسيّةُ والمعلّمةُ الإيطاليّةُ ماريا مونتسوري خيرَ تعبيرٍ عن حاجةِ الطفلِ الأساسيّة بعبارتِها الشهيرة “ساعدني لأقومَ بهذه الأشياء بمفردي” .

البالغُ يساعدُ الطفلَ، يرافقُه ويوجّهُه ليصلَ إلى المعلومةِ ولاكتسابِ مهارةٍ جديدةٍ.

منَ الحريِّ بنا إذًا أن نسألَ أنفسَنا إلى أيِّ مدىً نرافقُ أطفالنا ونوجِهَهُم للبحثِ عن المعلومةِ دونَ أن نقدِّمَها لهم جاهزةً للاستعمال؟

كارول لحّود
مستشارة تربويّة لدار هاشيت أنطوان
معالجة نفس حركة
أخصائيّة نفس مدرسيّ
مرشدة عائليّة
مدربّة